أمير الشعراء
احتفل المجلس الأعلي للثقافة منذ أيام بذكري شوقي وحافظ بمناسبة يوبيلهما الفضي، وحضر هذه الاحتفالات وفود من مختلف أنحاء العالم العربي.. باعتبار أن كلا الشاعرين علامة طريق في الشعر العربي المعاصر.
وسوف نلقي الضوء علي حياة أمير الشعراء الذي ارتكب الاستعمار البريطاني في حقه جريمة اجباره علي الرحيل عن وطنه.
ولد أحمد شوقي في 16 اكتوبر من عام 1868 في حي الحنفي في القاهرة، وتعلم في مدرسة الحقوق، ثم أرسله الخديوي توفيق لفرنسا لدراسة الحقوق والآداب بها، حيث عاش هناك أربعة أعوام بين مونبليه وباريس، وأتيح له دراسة الأدب الفرنسي، وتردد عي متاحف فرنسا واستفاد من دراسة الآداب الفرنسية، وعاد إلي مصر ليعمل في القصر، وتبرز مواهبه كشاعر كبير سواء في الشعر الغنائي أو المسرحي، وكتب للأطفال شعرا يتناسب مع أعمارهم، ثم سرعان ما أصبح جديرا بلقب أمير الشعراء. حيث بويع بامارة الشعب بعد عودته من منفاه في أسبانيا.
لقد عايش شوقي مامر بمصر من أحداث، وشاهد الفظائع التي ارتكبها الاستعمار الانجليزي، وكيف كان ينكل بشعب مصر، وكان سببا في تخلفها في مضمار التقدم والحضارة، وحال بينها وبين النهوض بما يليق بمجدها وتاريخها العريق، بل هاله أن يرتكب الاستعمار الانجليزي حماقة اعدام بعض أهالي دنشواي بلا مبرر، تلك القسوة التي هاجمها الزعيم الشاب مصطفي كامل، والذي استطاع ان يشن أعنف الهجوم علي 'كرومر' الحاكم الفعلي لمصر، حتي تم عزله عنها.. وقال شوقي في هذا الحدث الخطير، قصيدة طويلة منها:
يا دنشواي علي رباك سلام
ذهبت بأنس ربوعك الأيام
ويقول فيها أيضا:
عشرون بيتا أقفرت وانتابها
بعد البشاشة وحشة وظلام
ياليت شعري في البروج حمائم
أم في البروج منية وحمام
(نيرون) لو أدركت عهد (كرومر)
لعرفت كيف تنفذ الأحكام!
وانطلقت قريحة شوقي كواحد من أعظم الشعراء في تاريخ الأدب العربي في كل تاريخه القديم والحديث، حتي أصبح ينطبق عليه ما قيل في المتنبي: رجل ملأ الدنيا وشغل الناس.
ومن مواقفه الانسانية ما ساقه لنا السفير أحمد عبدالمجيد في كتابه عن شوقي فيقول:
في عام 1927 كان الموسيقار محمد عبدالوهاب يصطاف مع أمير الشعراء في جبل لبنان، وفي بلدة زحلة الذي كان يؤثرها وتهفو نفسه إليها، وفي أحد أيام شهر يوليو من هذا العام، وردت برقيه لعبدالوهاب من شقيقه الأكبر الشيخ حسن عبدالوهاب ينعي له فيها والدهما.
وكان عبدالوهاب قد اتفق قبل ذلك بعدة أيام مع متعهد ممن يقيمون حفلات الشهر لاقامة حفل أعدله العدة وأراد أن يكون تاجا لكل حفلات الطرب والسمر حيث سيكون صداح الحفل هو الموسيقار محمد عبدالوهاب، كما سيتيح له بذلك لعشاق فنه من الدول العربية المجاورة ومن أهالي لبنان، أن يروه ويسمعوه في وقت سبق السينما العربية والاذاعة والتليفزيون والتسجيلات.
وتم طبع الاعلانات والتذاكر التي أقبل عليها الراغبون والمتشوقون لهذه الفرصة اقبالا فريدا، وقد وافق موعد هذا الحفل الساهر، يوم وصول برقية شقيق عبدالوهاب الذي نعي فيها والده.. أي، 'فرح هنا وهناك قام المأتم'.
أطلع عبدالوهاب أمير الشعراء علي البرقية، ونقل اليه عزمه علي السفر الي القاهرة. ولم تكن الطائرات آنذاك تنقل الركاب والمسافرين بل كانت مقصورة علي الحرب، ومعني ذلك انه سيصل عن طريق البحر في يومين علي الأقل هذا إن وجد مكانا، وكانت هناك باخرة ستبحر في هذا اليوم.
وجد شوقي أن عبدالوهاب بين عاطفة البنوة الوفية، والواجب الذي يزعزع الثقة بالفنان اذا هو أخل بما تعاقد عليه.. في موقف يستحق التدبير والفكر.
وقال له بعد عزائه إن الأمر بجملته مرجعه اليك، ولا بأس أن تسافر كما قررت، ولكن كنت قد وعدت الدكتور طه حسين ان تقوم بزيارته اليوم، ردا علي زيارته لنا عندما وصلنا من مصر، وطابت نفسه عندما علم انك ستكون مصاحبي في هذه الزيارة لبلدة (بكفيا) حيث يصطاف الدكتور قبل سفره الي اوروبا، فلا أقل من أن تقوم بهذا الواجب قبل رحيلك.
وافق عبدالوهاب ولم يبد أي اعتراض، واستقلا سيارة الي (بكفيا).. ولما ضمهم مجلس عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، بادر شوقي بابلاغ الدكتور طه حسين مصاب عبدالوهاب، فقام الدكتور
طه حسين بتقديم عزائه ومواساته، ولما جاء ذكر عزمه علي السفر برغم ارتباطه الذي كان قد علم به دكتور طه حسين وانه بسفره سوف يتخلف عنه، بعد أن تم كل الاعداد لهذا الحفل الكبير، الذي ينتظره عشاق فنه، قال له هو يستمد من حكمة الاغريق المنطق والحجة والأمر الواقع والاقناع، مما يتلخص في هذا المشهد الحواري، بمبناه قبل معناه.
دكتور طه حسين:
,يامحمد يا ابني، ما حدث كان لابد ان يحدث،
وهذا قدرنا ولن يعوضك سفرك شيئا من فقد والدك الكريم، فأنت ستصل بعد أن تكون مراسم تشييع الجنازة وما يتبعها قد تمت، وارتباطك هنا يلزمك كفنان أصيل أن يضع في اعتباره ماله وما عليه، والفنان أسير فنه، والأحداث تجري الي مستقر لها ولابد مما قدر أن يكون.
وهنا قال شوقي مخاطبا دكتور طه حسين:
,لعلك يادكتور اذا رويت لمحمد ما حدث لعبده الحامولي يوم زواج ابنه محمود، يقتنع بان الفنان لايقعد به اي حدث لانه يتميز عن باقي خلق الله، بما اودعه فيه من فن عليه دفع الضريبة عنه من أعصابه ومن احتماله ومن الرضا بأحكام القدر لأنه يحمل رسالة هو مكلف بأدائها.
فقال الدكتور طه حسين:
ان موقف عبده الحامولي عند وفاة وحيده ليلة عرسه، يبدو بالنسبة لمحمد شيئا يعتصر القلب ويثير العجب في قوة الاحتمال:
فقد كان عبده الحامولي يحتفل بزواج ابنه محمود في يوم معلوم، وقد اقيم حفل في الدار للسيدات، كما اقيم علي مبعدة من الدار سرادق للرجال، قد شاء عبده ان يسعد المحتفلين معه بزواج وحيده، بليلة من ليالي العمر، يغني فيها دورا كان يناسب هذه الفرحة واستعد التخت للعزف بعد ان ضبط ايقاعاته، وكان الدور علي ما أذكر:
ياوصل شرف ياجفا روح عنا
خلي الحبايب بالحياة تتهنا
وقبل أن يبدأ الغناء جاء من الدار خادم أسر في اذن عبده الحامولي بأن ابنه العريس محمود أصيب بهبوط مفاجيء في القلب وتوفي في الحال وهو جالس الي جوار عروسه.
ويمكننا تلخيص هذا الحوار الطويل الذي دار بين شوقي وطه حسين وعبدالوهاب، بان أمر عبده الحامولي الخادم بالا يرتفع صوته بالبكاء حتي ينفض الحفل المقام في السرادق، ثم طلب من أفراد التخت تعديل ما سبق الاتفاق عليه من مقامات موسيقية، وامده الله من وحي المأساة المباغتة بنظم بسيط ينم عن شعوره ووجدانه وكانت كلماته.
الصبر محمود لمثلي
علي حبيبي وبعده
والنار في القلب ترعي
والرب يلطف بعبده
ولدي ياكبدي يانور العين
كبدي ياولدي بياض العين
واسترسل في هذا البكاء الحزين، حتي بكي الناس معه، ولم يدر أحد مهم السر وراء اختياره هذه الكلمات الحزينة في ليلة عرس ابنه، ثم وقف علي باب السرادق يشكرهم علي مواساته في وفاة ولده.
ومازال طه حسين يقنع عبدالوهاب حتي اقتنع وألغي فكرة سفره، دون ان يعلم احد بالسر، وطلب عبدالوهاب من شوقي أن يكتب له كلمات تناسب هذا الموقف الحزين الذي يعيشه، وكتب شوقي هذه الأغنية التي غناها عبدالوهاب في الحفل وكان مطلعها:
الليل بدموعه جاني
ياحمام نوح ويايه
توج واشرح اشجاني
ده جواك من جنس جوايه
واستطاع عبدالوهاب ان يغني وسط الجموع هذه الأغنية الحزينة، والجماهير بين اعجاب وتعجب وقد أسعدها علي كل حال ان تسمع عبدالوهاب وهو يغني.
ويقول السفير أحمد عبدالمجيد:
وكان دور شوقي أمير الشعراء في هذه القصة، دور الانسان الذي يزخر قلبه ووجدانه باسمي مشاعر المواساة، وأرق وسائل الارجاء والتوجيه لفنان يرعاه ويأمل له مستقبلا كان يري تباشيره بعين بصيرة واعية، وكان يخشي عليه ان تهتز مقاييسه وقدره عند محبيه ان هو تخلف عنهم.
..نمضي مع حياة أمير الشعراء أحمد شوقي الذي عاش حياة القصور، وكيف كان يعيش أحلام شعبه وأمانيه، وكيف تغني بانتصاراته، وبكي لهزائمه، وهزه موت الذين ملأوا حياة مصر بالرجاء والأمل، فكانت مواثيه لهم، مشاركه وجدانية لانسان مرهف الحس والوجدان، متقد الوطنية، واحساسه المرهف بأمال وأماني وطنه، وتغنيه بأمجاده، ومطالبته برفع الظلم والاستبداد والاستعمار عن كاهله..
كل ذلك كان دافعا للاستعمار الا يطيق هذا الصوت الرائع المفعم بالأمال لوطنه فكان نفيه لأسبانيا.. تلك البلاد التي اختارها شوقي لأن بها تاريخا عريضا ومجيدا للعرب والإسلام....